في ظل ضجيج الحياة العصرية وسيطرة التكنولوجيا على معظم جوانبها، تبرز أماكن فريدة تعيد للأذهان أصالة الماضي وجمال التفاصيل الثقافية. من بين هذه الأماكن يبرز مقهى “قهوة وكتاب” في العاصمة بغداد كواحة هادئة لعشاق الكتب والثقافة، حيث يلتقي الفكر مع رائحة القهوة في أجواء تراثية تأخذ الزائر في رحلة عبر الزمن.
رحلة تأسيس المقهى: من الفكرة إلى الإنجاز
تأسس مقهى “قهوة وكتاب” أو باللهجة العراقية “گهوة وكتاب” عام 2016 في فترة دقيقة من تاريخ العراق، بعد تراجع الأوضاع الأمنية. جاءت الفكرة على يد ياسر علاء، صاحب المقهى، والذي كان يدير مكتبة صغيرة في شارع المتنبي، معقل الثقافة العراقية. أراد علاء إنشاء مساحة تتيح للجميع الاستمتاع بكتب متنوعة وقهوة لذيذة في مكان هادئ ومريح، فكان “قهوة وكتاب” بمثابة الحلم الذي أصبح واقعا.
المقهى لم يكن مجرد مشروع تجاري، بل مثل رسالة ثقافية عميقة، تجمع بين الترفيه والتعليم وتوفر منصة للنقاشات الهادفة وحلقات النقاش الفكري، إلى جانب حفلات توقيع الكتب ولقاء الأدباء والفنانين.
ديكور تراثي يعكس روح بغداد القديمة
أول ما يلفت الزائر عند دخوله مقهى “قهوة وكتاب” هو الديكور الذي يعكس عراقة بغداد وعمق تاريخها. يستوحي المكان تصميمه من “الشناشيل” البغدادية القديمة، وهي النوافذ التراثية التي ميزت البيوت العراقية في الماضي. تعزز الألوان الهادئة والأثاث الخشبي من أجواء المقهى، ليشعر الزائر كأنه غادر صخب الحاضر إلى زمن أكثر بساطة وهدوء.
يضم المقهى مكتبة غنية بكتب في مجالات مختلفة، منها التاريخ والفن والأدب والعلوم، متاحة للقراءة داخل المكان أو الشراء لمن يرغب. كما يتميز المقهى بتقديم مشروبات ساخنة متنوعة وحلوى محلية تعزز من تجربة الجلوس في هذا الفضاء الثقافي.
مكان يجذب النخب الثقافية والفنية
منذ افتتاحه، استطاع المقهى أن يصبح وجهة مفضلة للمثقفين والكتاب والشباب الجامعيين الذين يبحثون عن مكان يتيح لهم قراءة كتبهم أو كتابة أبحاثهم في أجواء هادئة. الإعلامي مصطفى لطيف أكد أن المقهى حصل على شهرته من خلال تسويق مبتكر اعتمد على الكتب ولقاءات الحوار الثقافية، حيث أصبحت مكتبته ملاذا للطلبة والباحثين عن مصادر علمية موثوقة.
مساحة للتواصل بعيداً عن التكنولوجيا
في عصر تهيمن فيه وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا اليومية، يعيد “قهوة وكتاب” للزوار تجربة تواصل حقيقية بعيدة عن شاشات الهواتف. الخدمة المميزة التي يقدمها المقهى تتمثل في توفير الإنترنت، لكن معظم الزوار يفضلون الانخراط في قراءة الكتب أو المشاركة في جلسات حوارية تتناول موضوعات فكرية وثقافية، وهو ما يحقق هدف المقهى في نشر روح القراءة والارتقاء بالوعي المجتمعي.
نموذج ثقافي قابل للتوسع
يصف عبد الله الدباغ، المستشار القانوني وأحد مرتادي المقهى، المكان بأنه “نموذج ملهم” يعكس جمالية الكتاب وثقافة الحوار التي تحتاجها الأجيال القادمة. كما يرى أن مثل هذه المشاريع تحمل أهمية كبيرة في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا تهيمن على تربية وتعليم الأجيال، مؤكدا على إمكانية توسع الفكرة ونجاحها في مناطق أخرى من العراق.
خاتمة: انعكاس للهوية الثقافية
في نهاية المطاف، يمثل مقهى “قهوة وكتاب” تجربة ثقافية فريدة تجمع بين عبق الماضي وأدوات الحاضر، ليكون مثالا ناجحا على المشاريع التي تعزز من الهوية الثقافية وتدعم الفكر والإبداع. وهو ليس مجرد مقهى عادي، بل مساحة ثقافية نابضة بالحياة حيث يمكن للكتب أن تجمع العقول، وللحوار أن يجمع القلوب.