في أقصى جنوب غرب رواندا، تتربع مزارع الشاي الخضراء كلوحة فنية بديعة بالقرب من منتزه نيونغوي الوطني، حيث تمتد هذه المساحات الشاسعة لتروي قصص نجاح متجددة في “بلد الألف تل”. هنا، يتجسد العمل الدؤوب في أجمل صوره، بينما تسابق النسوة الزمن لجمع أوراق الشاي الطازجة لتبدأ بعدها رحلة طويلة من التصنيع والإنتاج.
عمليات قطف الأوراق: سرعة ودقة متناهية
في مشهد يومي مميز، تسرع النسوة في قطف الأوراق الخضراء بعناية فائقة، وهن يحملن سلالاً من قصب مثبتة بإحكام على ظهورهن. بمجرد امتلاء السلال، يتم نقل المحصول إلى أكياس كبيرة ليُرسل إلى مصنع “جيساكورا” القريب. هناك تبدأ عملية تجفيف الأوراق وتحويلها إلى شاي أسود ذي جودة عالية، أو إلى خطوط إنتاج تقليدية لإنتاج الشاي الأخضر.
تعمل النساء لستة أيام أسبوعياً، ويتقاضين أجورهن بناءً على كمية الأوراق التي يتم جمعها. هذا النظام العادل في التعامل يديره تعاون مزارعي ومنتجي الشاي، وفقاً لما يوضحه ماسومبوكو ريك، الدليل السياحي في مؤسسة إيفومو الاجتماعية.
صناعة الشاي الأخضر: بين التقليد والحداثة
انطلقنا من قلب المزارع إلى خط إنتاج تقليدي لاكتشاف خطوات تصنيع الشاي الأخضر. تبدأ العملية بوضع الأوراق الخضراء في مهراس خشبي تقليدي، حيث تُهرس بخفة باستخدام عصى طويلة، تليها مرحلة التجفيف في أطباق صديقة للبيئة، ليتم بعدها تعبئة المنتج في أكياس ورقية جاهزة للعرض والبيع.
في إحدى القاعات التابعة لمؤسسة إيفومو، تُقدم تجربة مدهشة لتذوق أنواع الشاي المختلفة، بين الأخضر، الأبيض، التقليدي، والعضوي. ويُصنف الشاي الرواندي كأحد أجود الأنواع في القارة الأفريقية، إذ يُصدّر إلى العديد من الدول الأوروبية ومناطق أخرى حول العالم.
رحلة إنتاج الشاي الأسود: الجودة أولاً
على بعد مئات الأمتار، يلوح مصنع جيساكورا الضخم، وهو أحد أهم مراكز إنتاج الشاي الأسود في رواندا. تبدأ عملية التصنيع بخطوات دقيقة تشمل ذبول الأوراق، ثم لفّها وأكسدتها قبل الوصول إلى مرحلة التجفيف. يتم تصدير هذا المنتج الفاخر إلى مزاد مومباسا في كينيا، والذي يُعد ثاني أكبر مركز لبيع الشاي عالمياً بعد كولومبو في سريلانكا.
يحرص مصنع جيساكورا على تحقيق الاستدامة من خلال دعم المجتمعات المحلية والمحافظة على البيئة، وهو جزء من منظومة متكاملة تضم 19 مصنعاً للشاي الأسود موزعة عبر رواندا.
زراعة الشاي: محور الاقتصاد الرواندي
تشكل زراعة الشاي دعامة اقتصادية أساسية في رواندا. فمنذ دخول هذا المحصول البلاد في خمسينيات القرن الماضي، أصبحت رواندا تنتج اليوم أكثر من 40 ألف طن سنوياً بفضل الظروف المناخية المثالية التي تشمل التربة الخصبة، الأمطار الوفيرة، والارتفاعات الشاهقة التي تتجاوز 1600 متر عن سطح البحر.
تساهم 23 تعاونية زراعية يعمل بها نحو 50 ألف شخص في إنتاج الشاي، ليتم تصدير 97% منه كسلعة خام إلى الأسواق العالمية، محققاً إيرادات تصل إلى 115 مليون دولار سنوياً.
السياحة الزراعية: تجربة فريدة في رواندا
لا تقتصر أهمية مزارع الشاي على الإنتاج فقط، بل أصبحت وجهة سياحية مميزة تدعم الاقتصاد المحلي. وفقاً لأناكليت كارانغوا، المدير التنفيذي لمؤسسة إيفومو، فإن تعزيز السياحة الزراعية يعد هدفاً أساسياً للمؤسسة، من خلال تنظيم أنشطة سياحية متنوعة مثل المشي لمسافات طويلة وركوب الدراجات بين مزارع الشاي، مما يوفر للزوار تجربة استثنائية وسط الطبيعة الخلابة.
إلى جانب مؤسسة إيفومو، توجد مؤسسات أخرى تلعب أدواراً مشابهة لدعم السياحة الخضراء وتعزيز دور المجتمعات المحلية في رواندا.
ختام الرحلة
خرجنا من بين أحضان مزارع الشاي لنختتم رحلتنا بمشهد أخّاذ يروي قصة بلد يتقن فن استثمار موارده الطبيعية. مزارع الشاي في رواندا ليست مجرد مصدر للإنتاج، بل هي قلب نابض بالعمل والابتكار والتنمية المستدامة. إنها وجهة سياحية فريدة تدعو الزوار لاكتشاف كنوز الطبيعة وأصالة الإنسان الرواندي.